الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وَقَدْ كَانَ هَذَا يَتَأَتَّى قَبْلَ الْيَوْمِ، فَأَمَّا فِي هَذَا الزَّمَانِ فَإِنَّهُ عَسِيرُ التَّكْوِينِ، وَقَلِيلُ الْوُجُودِ.وَيرى كَثِيرٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَنَّ مَالِكًا أَخَذَهُ مِنْ حِكَمِ لُقْمَانَ؛ فَفِيهَا أَنَّ لُقْمَانَ الْحَكِيمَ قال لِابْنِهِ: لَيْسَ غِنًى كَصِحَّةٍ، وَلَا نَعِيمٌ كَطِيبِ نَفْسٍ.وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ، عَنْ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ قال: لَمَّا نَزَلَتْ: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمئِذٍ عَنْ النَّعِيمِ} قال الزُّبَيْرُ: يَا رسول اللّه عَنْ أَيِّ نَعِيمٍ نُسْأَلُ، وَإِنَّمَا هُمَا الْأَسْوَدَانِ التَّمْرُ وَالْمَاءُ؟ قال: «أَمَا إنَّهُ سَيَكُونُ».وَفِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قال: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنْ النَّعِيمِ} قال النَّاسُ: يَا رسول اللّه؛ عَنْ أَيِّ النَّعِيمِ نُسْأَلُ؟ فَإِنَّمَا هُمَا الْأَسْوَدَانِ؛ وَالْعَدُوُّ حَاضِرٌ، وَسُيُوفُنَا عَلَى عَوَاتِقِنَا؟ قال: «أَمَا إنَّهُ سَيَكُونُ».قال الْقَاضِي: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ السُّورَةَ مَدَنِيَّةٌ، نَزَلَتْ بَعْدَ شَرْعِ الْقِتَالِ.وَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ قال: بَلَغَنِي أَنَّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم دَخَلَ الْمَسْجِدَ، فَوَجَدَ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ فَقالا: أَخْرَجَنَا الْجُوعُ. فَقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «وَأَنَا أَخْرَجَنِي الْجُوعُ؛ فَذَهَبُوا إلَى أَبِي الْهَيْثَمِ بْنِ التَّيْهَانِ، فَأمر لَهُمْ بِشَعِيرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِلَ، وَقَامَ فَذَبَحَ لَهُمْ شَاةً، وَاسْتَعْذَبَ لَهُمْ مَاءً، فَعلق فِي نَخْلَةٍ، ثُمَّ أُتُوا بِذَلِكَ الطَّعَامِ، فَأَكَلُوا مِنْهُ، وَشَرِبُوا مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ، فَقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لَتُسْأَلُنَّ عَنْ نَعِيمِ هَذَا الْيَوْمِ».قال الْقَاضِي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَالْحَدِيثُ مُسْنَدٌ مَشْهُورٌ فِي الصِّحَاحِ وَغَيْرِهَا، وَهَذَا نَعِيمُ الْمَأْكَلِ وَالْمَشْرَبِ، وَأَصْلُهُ الَّذِي لَا تَنَعُّمَ فِيهِ جِلْفُ الْخُبْزِ وَالْمَاءِ، «وَحَسْبُ ابْنِ آدَمَ لُقَيْمَاتٍ يُقِمْنَ صُلْبَهُ»، هَكَذَا قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم.وَقَدْ يَكُونُ النَّعِيمُ فِي الْخَادِمِ كَمَا حَدَّثَ الْهُجَيْعُ بْنُ قَيْسٍ أَنَّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قِيلَ لَهُ: مَا يَكْفِي ابْنَ آدَمَ مِنْ الدُّنْيَا؟ قال: «مَا أَشْبَعَ جَوْعَتَك، وَسَتَرَ عَوْرَتَك؛ فَمَنْ كَانَ لَهُ خَادِمٌ فَهُنَاكَ النَّعِيمُ، فَهُنَاكَ النَّعِيمُ».وَمِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «إنَّ أَوَّلَ مَا يُسْأَلُ عَنْهُ الْعَبْدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ النَّعِيمِ أَنْ يُقال لَهُ: أَلَمْ أَصِحَّ جِسْمَك؟ أَلَمْ أَرْوِك مِنْ الْمَاءِ الْبَارِدِ».خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ.وَقَدْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ فَقال: إنَّ أَبَا الْهَيْثَمِ بْنَ التَّيْهَانِ قال: «إنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خَرَجَ فَإِذَا هُوَ بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ، فَعَمَدَ نَحْوَهُ، فَوَقَفَ فَسَلَّمَ فَرَدَّ عُمَرُ عَلَيْهِ السلام، فَقال لَهُ أَبُو بَكْرٍ: مَا أَخْرَجَك هَذِهِ السَّاعَةَ؟ قال: وَأَنْتَ مَا أَخْرَجَك هَذِهِ السَّاعَةَ؟ قال أَبُو بَكْرٍ: أَنَا سَأَلْت قَبْلَ أَنْ تَسْأَلَنِي.قال: أَخْرَجَنِي الْجُوعُ، قال أَبُو بَكْرٍ: وَأَنَا أَخْرَجَنِي الَّذِي أَخْرَجَك. فَجَلَسَا يَتَحَدَّثَانِ، فَطَلَعَ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فَعَمَدَ نَحْوَهُمَا حَتَّى وَقَفَ عَلَيْهِمَا، فَسَلَّمَ فَرَدَّا عَلَيْهِ السلام فَقال: مَا أَخْرَجَكُمَا هَذِهِ السَّاعَةَ؟ فَنَظَرَ كل واحد مِنْهُمَا إلَى صَاحِبِهِ لَيْسَ منهما واحد إلَّا يَكْرَهُ أَنْ يُخْبِرَهُ.فَقال أَبُو بَكْرٍ: خَرَجَ يَا رسول اللّه، وَخَرَجْت بَعْدَهُ، فَسَأَلْته مَا أَخْرَجَك هَذِهِ السَّاعَةَ؟ قال: بَلْ أَنْتَ مَا أَخْرَجَك هَذِهِ السَّاعَةَ؟ فَقُلْت: أَنَا سَأَلْتُك قَبْلَ أَنْ تَسْأَلَنِي.قال: أَخْرَجَنِي الْجُوعُ.قال: فَقُلْت لَهُ: أَخْرَجَنِي الَّذِي أَخْرَجَك. فَقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: وَأَنَا أَخْرَجَنِي الَّذِي أَخْرَجَكُمَا.قال: ثُمَّ قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: تَعْلَمَانِ مِنْ أحد نُضِيفُهُ الْيَوْمَ؟ قالا: نَعَمْ، أَبُو الْهَيْثَمِ بْنِ التَّيْهَانِ حَرِيٌّ إنْ جِئْنَاهُ أَنْ نَجِدَ عِنْدَهُ فَضْلًا مِنْ تَمْرٍ يُعَالِجُ جِنَانَهُ هُوَ وَامرأته لَا يَبِيعَانِ مِنْهُ شَيْئًا.قال: فَخَرَجَ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وَصَاحِبَاهُ حَتَّى دَخَلُوا الْحَائِطَ، فَسَلَّمَ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فَسَمِعَتْ أُمُّ الْهَيْثَمِ تَسْلِيمَهُ فَفَدَتْهُ بِالْأَبِ وَالْأُمِّ، وَأَخْرَجَتْ حِلْسًا لَهَا مِنْ شَعْرٍ، فَطَرَحَتْهُ، فَجَلَسَ عَلَيْهِ، فَقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أَيْنَ أَبُو الْهَيْثَمِ؟ قالتْ: ذَهَبَ يَسْتَعْذِبُ لَنَا مِنْ الْمَاءِ.قال: فَطَلَعَ أَبُو الْهَيْثَمِ بِالْقِرْبَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ، فَلَمَّا رَأَى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بَيْنَ ظَهْرَانَيْ النَّخْلِ أَسْنَدَهَا إلَى جِذْعٍ، وَأَقْبَلَ يَفْدِي بِالْأَبِ وَالْأُمِّ، فَلَمَّا رَأَى وُجُوهَهُمْ عَرَفَ الَّذِي بِهِمْ.فَقال لِأُمِّ الْهَيْثَمِ: هَلْ أَطْعَمْت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وَصَاحِبَيْهِ شَيْئًا؟ فَقالتْ: إنَّمَا جَلَسَ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم السَّاعَةَ.قال: فَمَا عِنْدَك؟ قالتْ: عِنْدِي حَبَّاتٌ مِنْ شَعِيرٍ.قال: كَرْكِرِيهَا وَاعْجِنِي، وَاخْبِزِي، إذْ لَمْ يَكُونُوا يَعْرِفُونَ الْخَمِيرَ.وَأَخَذَ شَفْرَةً، فَقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: إيَّاكَ وَذَوَاتِ الدَّرِّ فَقال: يَا رسول اللّه، إنَّمَا أُرِيدُ عَنَاقًا فِي الْغَنَمِ.قال: فَذَبَحَ، فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ جَاءَ بِذَلِكَ إلَى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم؛ فَأَكَلَ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وَصَاحِبَاهُ قال: فَشَبِعُوا شِبْعَةً لَا عَهْدَ لَهُمْ بِمِثْلِهَا، فَمَا مَكَثَ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إلَّا يَسِيرًا، حَتَّى أُتِيَ بِأَسِيرٍ مِنْ الْيَمَنِ، فَجَاءَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم تَشْكُو إلَيْهِ الْعَمَلَ وَتُرْبَةَ يَدِهَا، وَتَسْأَلُهُ إيَّاه.قال: لَا، وَلَكِنْ أَعْطِيهِ أَبَا الْهَيْثَمِ، فَقَدْ رَأَيْت مَا لَقِيَهُ هُوَ وَمِرْيَتُهُ يَوْمَ ضِفْنَاهُمْ.قال: فَأَرْسَلَ إلَيْهِ فَأَعْطَاهُ إيَّاهُ، فَقال: خُذْ هَذَا الْغُلَامَ يُعِينُك عَلَى حَائِطِك، وَاسْتَوْصِ بِهِ خَيْرًا.قال: فَمَكَثَ الْغُلَامُ عِنْدَ أَبِي الْهَيْثَمِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَمْكُثَ، ثُمَّ قال: يَا غُلَامُ، لَقَدْ كُنْت مُسْتَقِلًّا وَأَنَا وَصَاحِبَتِي بِحَائِطِنَا، اذْهَبْ، فَلَا رَبَّ لَك إلَّا اللَّهُ. قال: فَخَرَجَ الْغُلَامُ إلَى الشَّامِ».وَرَوَى عِكْرَاشُ بْنُ ذُؤَيْبٍ: قال: «بَعَثَنِي بَنُو مُرَّةَ بْنِ عُبَيْدٍ بِصَدَقَاتِ أَمْوَالِهِمْ إلَى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فَقَدِمْت عَلَيْهِ الْمَدِينَةَ، فَوَجَدْته جَالِسًا بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ قال: ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي فَانْطَلَقَ بِي إلَى بَيْتِ أُمِّ سَلَمَةَ، فَقال: هَلْ مِنْ طَعَامٍ؟ فَأَتَيْنَا بِجَفْنَةٍ كَثِيرَةِ الثَّرِيدِ وَالْوَدَكِ، وَأَقْبَلْنَا نَأْكُلُ مِنْهَا، فَخَبَطْت بِيَدِي فِي نَوَاحِيهَا، وَأَكَلَ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ، فَقَبَضَ بِيَدِهِ الْيُسْرَى عَلَى يَدِي الْيُمْنَى، ثُمَّ قال: يَا عِكْرَاشُ؛ كُلْ مِنْ موضع واحد، فَإِنَّهُ طَعَامٌ وَاحد.ثُمَّ أُتِينَا بِطَبَقٍ فِيهِ أَلْوَانُ الرُّطَبِ؛ أَوْ مِنْ عُبَيْدِ اللَّهِ شَكٌّ قال: فَجَعَلْت آكُلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيَّ، وَجَالَتْ يَدُ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فِي الطَّبَقِ وَقال: يَا عِكْرَاشُ؛ كُلْ مِنْ حَيْثُ شِئْت،فَإِنَّهُ مِنْ غَيْرِ لَوْنٍ وَاحد، ثُمَّ أُتِينَا بِمَاءٍ، فَغَسَلَ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يَدَيْهِ، وَمَسَحَ بِبَلَلِ يَدَيْهِ وَجْهَهُ وَذِرَاعَيْهِ وَرَأْسَهُ، وَقال: يَا عِكْرَاشُ؛ هَذَا الْوُضُوءُ مِمَّا غَيَّرَتْ النَّارُ».وَقال الْقَاضِي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: فَهَذَا كُلُّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمَرْءِ أَنْ يَتَوَسَّعَ فِي الطَّعَامِ وَيَتَلَذَّذَ، وَيُسَمِّيَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَيَحْمَدَهُ، وَلَا يَصْرِفَ قُوَّتَهُ الْمُسْتَفَادَةَ بِذَلِكَ فِي مَعْصِيَتِهِ، فَإِنْ سُئِلَ وَجَذَبَتْهُ سَعَادَتُهُ فَسَيُوَفَّقُ لِلْجَوَابِ إنْ شَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. اهـ.
|